الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما كانت عبادة غير الله- ولو كانت على سبيل الشرك- مبطلة لعبادة الله، لأنه سبحانه أغنى الأغنياء، ولا يرضى الشرك إلا فقير، قال: {من دون الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له، فيكون المعنى: اتخذوا تألهنا سلمًا تتوصلون به إلى الله، ويجوز أن يكون المعنى على المغايرة، ولا دخل حينئذ للمشاركة.ولما كان من المعلوم لنا في غير موضع أنه لم يقل ذلك، صرح به هنا توبيخًا لمن أطراه، وتأكيدًا لما عندنا من العلم، وتبجيلًا له صلى الله عليه وسلم بما يبدي من الجواب، وتفضيلًا بالإعلام بأنه لم يحد عن طريق الصواب، بل بذل الجهد في الوفاء بالعهد، وتقريعًا لمن قال ذلك عنه وهو يدعي حبه واتباعه عليه السلام وتخجيلًا لهم، فلما تشوفت لجوابه الأسماع وأصغت له الآذان، وكان في ذكره من الحكم ما تقدمت الإشارة إليه، ذكره سبحانه قائلًا: {قال} مفتتحًا بالتنزيه {سبحانك} أي لك التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص، ودل بالمضارع على أن هذا القول لا يزال ممنوعًا منه فقال: {ما يكون لي} أي ما ينبغي ولا يصح أصلًا {أن أقول} أي في وقت من الأوقات {ما ليس لي} وأغرق في النفي كما هو حق المقام فقال: {بحق}.ولما بادر عليه السلام إعظامًا للمقام إلى الإشارة إلى نفي ما سئل عنه، أتبعه ما يدل على أنه كان يكفي في الجواب عنه: أنت أعلم، وإنما أجاب بما تقدم إشارة إلى أن هذا القول تكاد السماوات يتفطرن منه ومبادرة إلى تبكيت من ادّعاه له، فقال دالًا على أنه لم يقنع بما تضمن أعظم المدح لأن المقام للخضوع: {إن كنت قلته} أي مطلقًا للناس أو حدثت به نفسي {فقد علمته} وهو مبالغة في الأدب وإظهار الذلة وتفويض الأمر كله إلى رب العزة؛ ثم علل الإخبار بعلمه بما هو من خواص الإله فقال: {تعلم} ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات، وكان القول يطلق على النفس، فإذا انتفى انتفى اللساني، قال: {ما في نفسي} أي وإن اجتهدت في إخفائه، فإنه خلقك، وما أنا له إلا آلة ووعاء، فكيف به إن كنت أظهرته.ولما أثبت له سبحانه ذلك، نفاه عن نفسه توبيخًا لمن ادعى له الإلهية فقال مشاكلة: {ولا أعلم ما في نفسك} أي ما أخفيته عني من الأشياء؛ ثم علل الأمرين كليهما بقوله: {إنك أنت} أي وحدك لا شريك لك {علام الغيوب}. اهـ.
.من أقوال المفسرين: .قال الفخر: هذا معطوف على قوله: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ} [المائدة: 110] وعلى هذا القول فهذا الكلام إنما يذكره لعيسى يوم القيامة، ومنهم من قال: إنه تعالى قال هذا الكلام لعيسى عليه السلام حين رفعه إليه وتعلق بظاهر قوله: {وَإِذْ قَالَ الله} وإذ تستعمل للماضي، والقول الأول أصح، لأن الله تعالى عقب هذه القصة بقوله: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] والمراد به يوم القيامة، وأما التمسك بكلمة إذ فقد سبق الجواب عنه. اهـ..قال القرطبي: اختلف في وقت هذه المقالة؛ فقال قَتَادة وابن جُرَيْج وأكثر المفسرين: إنما يقول له هذا يوم القيامة.وقال السّدي وقُطْرُب.قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت؛ واحتجوا بقوله: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] فإنّ «إذْ» في كلام العرب لما مضى.والأول أصح؛ يدل عليه ما قبله من قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} [المائدة: 109] الآية وما بعده {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119].وعلى هذا تكون «إذ» بمعنى «إذا» كقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} [سبأ: 51] أي إذا فَزِعوا.وقال أبو النجم:يعني إذا جزى.وقال الأسود بن جعفر الأزدي: يعني إذا هازلتهنّ، فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي؛ لأنه لتحقيق أمره، وظهور برهانه، كأنه قد وقع.وفي التنزيل {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة} [الأعراف: 50] ومثله كثير وقد تقدم. اهـ. .قال الفخر: في قوله: {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} سؤالان:أحدهما: أن الاستفهام كيف يليق بعلام الغيوب.وثانيهما: أنه كان عالمًا بأن عيسى عليه السلام لم يقل ذلك فلم خاطبه به؟ فإن قلتم الغرض منه توبيخ النصارى وتقريعهم فنقول: إن أحدًا من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى ومريم مع القول بنفي إلهية الله تعالى فكيف يجوز أن ينسب هذا القول إليهم مع أن أحدًا منهم لم يقل به.والجواب: عن السؤال الأول أنه استفهام على سبيل الإنكار.والجواب: عن السؤال الثاني أن الإله هو الخالق والنصارى يعتقدون أن خالق المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى عليه السلام ومريم والله تعالى ما خلقها ألبتة وإذا كان كذلك فالنصارى قد قالوا إن خالق تلك المعجزات هو عيسى ومريم والله تعالى ليس خالقها، فصح أنهم أثبتوا في حق بعض الأشياء كون عيسى ومريم إلهين له مع أن الله تعالى ليس إلهًا له فصح بهذا التأويل هذه الحكاية والرواية.ثم قال تعالى: {سبحانك مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} أما قوله: {سبحانك} فقد فسرناه في قوله: {سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32].واعلم أن الله تعالى لما سأل عيسى أنك هل قلت كذا لم يقل عيسى بأني قلت أو ما قلت بل قال ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، وهذا ليس بحق ينتج أنه ما يكون لي أن أقول هذا الكلام ولما بيّن أنه ليس له أن يقول هذا الكلام شرع في بيان أنه هل وقع هذا القول منه أم لا فلم يقل بأني ما قلت هذا الكلام لأن هذا يجري مجرى دعوى الطهارة والنزاهة، والمقام مقام الخضوع والتواضع، ولم يقل بأني قلته بل فوض ذلك إلى علمه المحيط بالكل.فقال: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل والمسكنة في حضرة الجلال وتفويض الأمور بالكلية إلى الحق سبحانه. اهـ..قال الماوردي: قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ...} الآية. {إِذْ} هاهنا بمعنى (إذا) كما قال أبو النجم:يعني إذا جزى، فأقام الماضي مقام المستقبل وهذا جائز في اللغة كما قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44].واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين:أحدهما: أنه تعالى سأله عن ذلك توبيخًا لمن ادعى ذلك عليه، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع.والثاني: أنه قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غُيِّرُوا بعده وادعوا عليه ما لم يقله.{قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ} أي أدعي لنفسي ما ليس من شأنها، يعني أنني مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود.وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين:أحدهما: تنزيهًا له عما أضيف إليه.الثاني: خضوعًا لعزته وخوفًا من سطوته.ثم قال: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فرد ذلك إلى علمه تعالى، وقد كان الله عالمًا به أنه لم يقله، ولكن قاله تقريعًا لمن اتخذ عيسى إلهًا. اهـ. باختصار يسير. .قال ابن عطية: اختلف المفسرون في وقت وقوع هذا القول. فقال السدي وغيره: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالت وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله تعالى حينئذ عن قولهم فقال: {سبحانك} الآية.قال القاضي أبو محمد: فتجيء {قال} على هذا متمكنة في المضي ويجيء قوله آخرًا {وإن تغفر لهم} [المائدة: 118] أي بالتوبة من الكفر، لأن هذا ما قاله عيسى عليه السلام وهم أحياء في الدنيا وقال ابن عباس وقتادة وجمهور الناس: هذا القول من الله إنما هو في يوم القيامة، يقول الله له على رؤوس الخلائق، فيرى الكفار تبرية منهم، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل.قال القاضي أبو محمد: وقال على هذا التأويل بمعنى يقول. ونزل الماضي موضع المستقبل دلالة على كون الأمر وثبوته، وقوله آخرًا {وإن تغفر لهم} [المائدة: 118] معناه إن عذبت العالم كله فبحقك وإن غفرت وسبق ذلك في علمك فلأنك أهل لذلك لا معقب لحكمك ولا منازع لك، فيقول عيسى هذا على جهة التسليم والتعزي عنهم مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب، وليس المعنى أنه لابد من أن تفعل أحد هذين الأمرين. بل قال هذا القول مع علمه بأن الله لا يغفر أن يشرك به. وفائدة هذا التوقيف على قول من قال إنه في يوم القيامة ظهور الذنب على الكفرة في عبادة عيسى وهو توقيف له يتقرر منه بيان ضلال الضالين.وسبحانك معناه تنزيهًا لك عن أن يقال هذا وينطق به، وقوله: {ما يكون لي أن أقول}... الآية. بقي يعضده دليل العقل، فهذا ممتنع عقلًا أن يكون لبشر محدث أن يدعي الألوهية وقد تجيء هذه الصيغة فيما لا ينبغي ولا يحسن مع إمكانه، ومنه قول الصديق رضي الله عنه: ما كان لابن قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {إن كنت قلته فقد علمته} فوفق الله عيسى عليه السلام لهذه الحجة البالغة. اهـ..قال القرطبي: واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين: أحدهما أنه سأله عن ذلك توبيخًا لمن ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب، وأشد في التوبيخ والتقريع.الثاني قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غَيَّروا بعده، وادعوا عليه ما لم يقله.فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلهًا فكيف قال ذلك فيهم؟ فقيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشرًا وإنما ولدت إلهًا لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له.قوله تعالى: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} خرّج الترمذي عن أبي هُريرة قال: تَلَقَّى عيسى حجَّته وَلقَّاهْ الَّلَهُ في قوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} قال أبو هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فَلَقّاه الله» {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} الآية كلها قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين أحدهما تنزيهًا له عما أضيف إليه.الثاني خضوعًا لعزته، وخوفًا من سَطْوته.ويقال: إن الله تعالى لما قال لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} أخذته الرّعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال: {سُبْحَانَكَ} ثم قال: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي أن أدّعي لنفسي ما ليس من حقها، يعني أنني مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود.ثم قال: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فردّ ذلك إلى علمه، وقد كان الله عالمًا به أنه لم يقله، ولكنه سأله عنه تقريعًا لمن اتخذ عيسى إلها. اهـ.
|